جريدة الاهرام: “مسافرون من الشرق”
مواضيع ذات صلة
بقلم: د. هالة أحمد زكى
ماذا تعنى كلمة سفر؟..هى بالتأكيد زيارة وربما هجرة إلى دول أوروبا وأمريكا.
أستطيع أن أحدد بدايات القرن التاسع عشر شاهدا على ذلك الوله المصرى- إن صح التعبير- لهذه البلاد التى كان تقدم أحوالها، دافعا لرغبتنا فى معاودة النهضة من جديد بعد سنوات من التوقف و التجمد لم تفق منه البلاد والعباد إلا عند بناء الدولة الحديثة فى بر مصر.
منطق مقبول، ولكن هل هذه هى كل البلاد، وماذا حدث فى بر مصر المحروسة قبل ذلك الزمن؟
أجد الإجابة فى كتب التاريخ، فقد خصتنا الجغرافيا بهذا المكان على خريطة العالم لنتعرف على بلاد أخرى.
لم يكن الغرب وحده مصدرا للإلهام، و كانت منذ البدايات العلاقات وثيقة مع أبناء أفريقيا وآسيا.
صحيح أن الكلام يطول ويستطرد إذا ما تحدثنا عن علاقتنا بأهل الجنوب التى أعتبرها قضية حياة بالنسبة لأهل مصر، و لكن ما أريد اليوم أن أتوقف عنده هو واقع آخر عرفناه منذ آلاف السنين خاص ببشر من الشرق يعود إليهم كثير مما حققته قاهرة المعز المحروسة.
نعترف اليوم اننا قد تركنا بلادا نعتبرها بلادنا، وأناسا نعتبرهم أهلنا.
فبحسابات التاريخ والجغرافيا والسياسة والحضارة لا معنى لنسيان أهل مصرتاريخا بدأ منذ أكثر من ألف عام..ولا معنى لهجران بلاد لم تخذل أهل مصر.
حديث يسبقه قراءة متأنية للتاريخ ، لم تكن القاهرة موجودة بهذا الكيان من آلاف السنين، ولكن القادمين من الشرق، الداخلين فى النسيج المصرى كانوا على معرفة واتصال بأهل مصر حتى قبل أن يتوحد الوجهان القبلى والبحرى وتقوم أول دولة تعرفها الدنيا.
شىء لا يصدق, فقد استقر فى الوجه البحرى كثير من أبناء الشرق – والعهدة على العالم الكبير سليم حسن-ولكن يبدو اننا لابد وأن ننتظر سنوات أخرى حتى نرى هؤلاء القادمين وتحديدا من آسيا الوسطى ضمن أبناء القاهرة الذين تُحكى عنهم الأعاجيب.
دخل القائد عمرو بن العاص مصر, وهم ضمن جنوده فى الفسطاط الذين استقروا وعاشوا فى خطط أو احياء خاصة بهم كما يؤكد عالم الآثار د.حسن الباشا، ولا عجب فقد كانوا دائما الجنود والعلماء حتى أن البلاذرى فى «فتوح البلدان» يشير إلى وجود ألف جندى منهم ضمن جنود الاحنف بن قيس الفاتح.
أما فى بر مصر فأكبر تواصل قد حدث فى أوج زمن الأيوبيين و المماليك، واستمر فى زمن محمد على باشا والى مصر الكبير.
يقال أيضا أن منهم من جاء قبلها أثناء حكم الطولونيين، ولكن ما يهمنا هى تلك القصص القاهرية التى كان لهم نصيب منها.
فى الذاكرة المصرية، هم معروفون فى شوارع وحوارى القاهرة بحلو عمرانهم ورغبتهم بالاستقرار، وتقاسمهم معنا كل الأيام الحلوة والمرة، ويشهد على هذا أكثر من مسجد وسبيل ومدرسة و«بيمارستان» فى أحياء الجمالية والخليفة والسيدة، فهم من حملوا أسماءهم ومفرداتهم وكانوا شهودا على زمن جميل.
بدأوا من بلاد ما وراء النهر حيث تختلط قمم الجبال بالسماء المفتوحة والأنهار العذبة، وانتهى بهم الحال إلى أن يكونوا من أهل مصر الطيبين.
يمكننا أن نتعرف على جولاتهم وصولاتهم فى الدفاع عن أرض مصر، وقصص دحرهم للتتار والصليبيين.
يمكننا أن نقرأ عن علمائهم وخاصة «الطاجيك» الذين حملوا رايات التحضر, ومنهم ابن سينا الملقب بالرئيس, أفضل من تتلمذ على تعاليم أبو الطب ابقراط كما يقول المؤرخ البريطانى أدوارد براون، والفيلسوف والمترجم الرحالة أبو الريحان البيرونى العالم بثقافات الهند، والزاهد والمفكر أبو النصر الفارابى الذى لقب بالمعلم الثانى بعد الفيلسوف أرسطو، والامام الترمذى عالم الحديث، الامام البخارى صاحب الصحيح، أبو بكر الرازى صاحب الحاوى فى الطب وقامات مثل البلخى والفراغانى، الخوارزمى عالم الرياضيات وغيرهم كما جاء فى «الحضارة الاسلامية فى طاجكستان» لأركين رحمة الله شيف.
كيف لنا أن نتغافل عن الحديقة اليانعة للحضارة الإسلامية، أو نتجاهل تواجد آبناء آسيا الوسطى… «الطاجيك» الذى ذكر الطبرى أنهم أحفاد طاج المذكور منذ القدم فى الاساطير، يذكروننى بالقاهرة زمان.