شباب النيل: “د. سعد عبد الغفار يكتب: طاجيكستان كما عرفها التَّاريخ”
مواضيع ذات صلة
عَزيزةٌ أنتِ عَلينا يَا بِلادَنا
وفي سبيـلِ عِزِّكِ اجْتِهادُنا..
جِهادُنـا
وجاءَ مِنْ عُمقِ القُرونِ امْـتدادُنا
خَفَّاقَةٌ راياتُـكِ فوقَ الرُّؤُوسِ
واصْطِـفـافُنا بِظِلِّها .. واتحادُنا
فَلْتَعِشْ يـا وَطـَنْ
طاجكستانُ حُرَّةً !
بهذه الكلمات الشاعرة التي تفيض وطنية، وفخرًا بالوطن للشاعر العظيم جوُلنَظَر( ) يبدأ النَّشيد الوطني لجمهورية طاجيكستان. وبهذه الكلمات العظيمة نتقدم بأجمل التهاني لقيادة وشعب طاجيكستان العظيم في الذكرى 26 للاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في 9سبتمبر 1991م.
وبهذه المناسبة العظيمة أجدني مدفوعًا للحديث عن الشعب الطاجيكي عبر التاريخ، عن أخص صفاته، وعلاقاته بالعرب والمسلمين عبر ما يزيد عن ألف عام، وإسهاماته في الحضارة الإسلامية والإنسانية جميعًا، وعن بلده الأسطوري الجميل، معتمدًا في ذلك على كتاب “الطاجيك في مرآة التاريخ” لفخامة الرئيس إمام على رحمان رئيس جمهورية طاجيكستان( ) الذي يستلهم فيه تاريخ شعبه المجيد؛ لاستعادة تقاليده وتجاربه التاريخية الفريدة التي تساعده على إقامة دولته الحديثة، وذلك بعد أن كان محرومًا من الدولة طيلة ألف سنة مضت( ).
ولا يفي بذلك الغرض مقالة واحدة أو مقالتان، وإنَّما ننوي– إن شاء الله- في كتابة سلسلة من المقالات تعرض للقضايا التي تناولها كتاب رئيس الدولة بعمق في كتابه آنف الذكر.
مَن نحن؟، ومِن أين؟، مِن أي جذور نشأنا؟، مَن هم أجدادنا الأُول، مِن أي نواحٍ قدموا، وفي أي حدود عاشوا؟. أَيْنَ تبدأ البداية، وما هو الزَّمن الذي يبلغ عند شطآنه تاريخ حضارة الطاجيك ودولتهم؟، ما هو الإسهام التَّاريخي لشعبنا في مولد، وفي التطور المستقبلي للحضارة المشتركة للآريين؟،هل تمتلك لغتنا، ووجودنا، وميراثنا التاريخي منشأَهم القومي الأول، أم أنَّنا اقتبسناها عن شعوب أخرى؟( ).
في وعيٍّ منه بتوظيف تقنية السُّؤال؛ لإثارة ذهن القارئ، ودفعه – من البداية – إلى مواصلة القراءة بيقظة وشغف؛ استهل فخامة الرئيس إمام على رحمان كتابَه “الطاجيك في مرآة التاريخ” بهذه الأسئلة الغزيرة والعميقة التي تضفي على المرحلة الحالية من مراحل الوعي الذاتي والاستقلال القومي للشعب الطاجيكي معنىً جديدًا وخاصًّا.
الشعب الطاجيكي واحدٌ من أقدم الشعوب القاطنة في آسيا الوسطى، الصَّانعة لحضارة عريقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، أسهم في إثراء الحضارة الإنسانية وإضفاء ألوان زاهية عليها من الفنون والآداب والعلوم لاتزال تنسلُ في البشرية إلى يوم الناس هذا. إنه شعب يفيض على جيرانه بمياهه الغزيرة التي تتدفق فوق جباله الشامخة، وتسيل في وديانه السَّخية.
ويجدر بنا في هذه المناسبة الوطنية العظيمة أن نلقي الضَّوء على بعض الصِّفات المميزة للشعب الطاجيكي -كما تترأى لنا في كتاب فخامة رئيس الدولة آنف الذكر- والتي جعلت منه شخصية متفردة، قادرة رغم قساوة التضاريس( ) أن تزرع الورود، وتغرس الأمل، وتنشر النور في كل بقعة بقعة من بقاع بلادها.
إنَّ أهم صفة يتسم بها الطاجيك هي حبُّهم وانتماؤهم الشديد لوطنهم. ومسيرة الشعب الطاجيكي شاهدة على ذلك عبر تاريخه الطويل، فرغم تعرضه غير مرَّة للاعتداء من قِبل المستعمرين والغزاة، لم يحدث يومًا أن تخلَّى عن مبدئه وانتمائه الوطني( ). وقد عبَّر الشاعر جُولنَظر عن ذلك الحسِّ الوطني بقوله:
لو كان بوسعي
لكنتُ أطلقتُ اسمَكِ الجمیل
على كلِّ قطرةِ مَطَرْ
لتعودي إلى الأرض
زهورًا في شتَّى الألوان
وصنعتُكِ من أشعة شمس الضُّحى
لتمتصَّكِ الأحداقُ نورًا للبَصَرْ
لو كان بوسعي
لكنتُ خلعتُ علیكِ زیًّا ملكیًّا
قد خیِطَ من حریر قوس قزح
وأسمعتُكِ هدیلَ الحمائم
وزقزقة العصافیر.
وأهدیتُكِ عَالمًا من الحبّ
تملأهُ أحلى الأساطیر.
لو كان بوسعي
لكنتُ سقیتُ جدائلكِ
نغماتِ الشلالات والأزهارْ
ونثرتُ أمام قدمیكِ
باقاتِ زهور
وطوّقتُ جیدكِ بأكالیل غارْ.
لو كان بوسعي
لكنتُ من فرط الأشواق
أعَرتُكِ جناحَ القَطا
وأطلقتُكِ في سماء صدري
تحلّقین بأمان ( ).
ويقول أيضًا:
إنْ قُلْتُ “وطني” سأُزهرُ بُستانا
إنْ قلتُ “بلدي” سأسكُبُ مرجانا( )
كما عبَّرت جُولر خُسار( ) في قصيدتها “وطن” عن حبِّها الشَّديد لوطنها، فهو أعزُّ ما تملك،
وكل شيء عندها، إنَّه مصدر الإحساس بجمال الحياة والأشياء من حولها؛ وهي إنْ بذلت العمرَ – مهما طال- في خدمته لا تفي بحقه. تقول:
يا وطني
إنَّك كلُّ شيء سوف أقوله
النَّار..
الحب..
الأمل..
وما تملكه النَّفس.
وبك أستجمِلُ الأشياءَ مِن حَولِي
فمَا أقصرك يا عُمُر في خدمة الوطن!( )
ولعل أبلغ دليل تاريخي على حبِّ الطاجيك وانتمائهم لوطنهم، ما أظهروه من بلاء حسن في الدِّفاع عن وطنهم ضد غزو جنكيزخان الذي أمر بإبادة الطاجيك عن بكرة أبيهم. وضد غزو الإسكندر الأكبر كذلك. ورغم تعدد القوميات في طاجيكستان إلا أن ولاءهم لم يكن لأيدلوجية معينة أو ثقافة روحية بعينها، وإنَّما كان لوطنهم الأم الذي يستظلون بسمائه ويشربون من مائه ويأكلون من سنابله الذهبية، فإنْ ظهرت فيهم بعض النعرات العرقية، والعصبيات القبلية فإنها لا تلبث أن تتلاشى لصالح انتمائهم وحبِّهم لوطنهم، الأمر الذي يؤكد يقظة وعيهم الوطني ونموه.
ويمثل الحرص على الصداقة وحسن الجوار سمةً أصيلةً في الشعب الطاجيكي، وميراثًا روحيًّا يسري فيهم جيلًا بعد جيل، فهو شعب متسامح لا يحب العنف ولا يميل إليه.
لأجل ذلك تبنت طاجيكستان الأنظمة التشريعية التي تدعم التعايش السلم، وبين مختلف أبنائها الذين قد يختلفون في توجهاتهم الروحية … كما تبنَّت السياسات التي تحافظ على حسن الجوار داخل حدود الوطن وخارجه، فالسياسة الطاجيكية تؤمن بأن العنف لا يوحِّد الشعوب، ولا يجمع بين الشرق والغرب، وإنَّما الذي يفعل ذلك هو العمل الإبداعي السلمي الخلاق.
الكاتب .. د. سعد محمد عبد الغفار – مدرس البلاغة والنقد بآداب الوادي الجديد – جامعة أسيوط