ВЫСТУПЛЕНИЕ Э. РАХМОНА НА МЕЖДУНАРОДНОМ СИМПОЗИУМЕ (АРАБСКАЯ ВЕРСИЯ)
كلمةفخامة الرئيس إمام علي رحمانرئيس جمهورية تاجيكستانفي الندوة العلمية الدولية بعنوان "الإمام الأعظم والعالم المعاصر"مدينة دوشنبه، 5 أكتوبر 2009مبسم الله الرحمن الرحيمالضيوف الأعزاء،المواطنون الكرام،أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،أحيكم تحية الإسلام وأرحب بكم جميعاً ضيفاً عزيزا في عاصمة جمهورية تاجيكستنان – مدينة دوشنبه.واليوم تجمعنا في هذه القاعة احتفالية مهيبة يحضرها كبار العلماء والفضلاء والشخصيات المعروفة يمثلون قرابة 50 بلداً من بلدان العالم جاءوا إلى هذا البلد العريق ليتبادلوا النظر في حياة وتراث هذا العَلَم من أعلام الإسلام ومؤسس مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله.وإنه لشرف لنا أن تكون مبادرتنا هذه حول إعلان عام 2009م عام الإجلال بالإمام الأعظم قد حظيت باهتمام وترحيب في تاجيكستان وفي العالم الإسلامي على حد سواء. وإننا نقدر حضور الضيوف الأعزاء حضوراً مباركاً في هذه الاحتفالية المهيبة باعتباره دليلاً للعرفان بهذا الرجل الفاضل والعلامة القدير في العالم الإسلامي من جهة وتأييداً ودعماً لمبادرة تاجيكستان في هذا السياق من جهة أخرى.الحضور الكرام،إن المجتمع الدولي قد دخل الألفية الجديدة في ظروف بمنتهى التعقيد والتناقضات، حيث أننا في العقود الأخيرة من القرن المنصرم ومطلع الألفية الجديدة أصبحنا نشهد تغيرات وتحولات أصولية أحدثتها من حيث الأساس ظاهرة شمولية للعولمة.وجدير بالذكر أن هذه الظاهرة فعلاً أصبحت عاملاً مهماً للتنمية والتغيير الجاد في مختلف المجالات، منها في العلم والفن والتكنولوجيا المعاصر، وفي الإنتاج والاستهلاك ليساعد كثيراً على تقارب الدول والأمم في المعمورة.ومع ذلك، فإن العولمة تسببت لانتشار أخطار وتحديات جديدة في مختلف مناطق العالم من قبيل الإرهاب والتطرف والنزاعات العرقية والانفصالية والجرائم المنظمة الدولية وغيرها من الظواهر والتيارات الخطرة على الانسانية.وأخيراً فإن هذه الظاهرة العالمية أحدثت أزمة مالية واقتصادية عميقة لا زالت تداعياتها تلقي بظلالها إلى يومنا هذا على معظم دول العالم.وفضلاً عن ذلك، فإن العولمة جعلت القيم والهوية الوطنية لمختلف الأمم والشعوب في معرض خطر الطمس وأثارت ظاهرة صدام الثقافات والحضارات.ونجد أن هذه الظاهرة ينظر إليها الكثير من رجال السياسة والعلم في الغرب والشرق طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من الزمن باعتبارها قضية مركزية في العلاقات الدولية.ومن هذا المنطلق أخذ المراقبون والخبراء يحذرون الناس جميعاً بما يكمن في صدام الحضارات من عواقب وخيمة معتبرين أن حوار الحضارات هو السبيل الأسلم لمجابهة مثل هذه الظاهرة المنكرة.وإن التاجيك الذين قد عاشوا مراحل معقدة وعسيرة في تاريخهم الطويل على امتداد آلاف السنين كانوا متمسكين في كل زمان بالتسامح والتشاور والتحاور ليثبتوا أن اللجوء إلى العنف في معالجة المشاكل والنزاعات وإثارة الخلافات بين مختلف العقائد والرؤى قد ليس يؤدي إلى فساد الأخلاق و تدني المستوى الثقافي والحضاري فحسب، بل يتسبب أيضاً لزوال الدول.وإن شعب تاجيكستان في عهده الحالي استناداً إلى تجربته التاريخية يؤيد دوماً فكرة حوار الحضارات.فعلى هذا الأساس ومن على المنابر العالية للمنظمات الدولية وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة لفتنا أكثر من مرة أنظار الأسرة الدولية إلى خطورة اللامبالاة بالهوية والتاريخ والثقافة وغيرها من الانتماءات والمقدسات الوطنية للشعوب.وإن الشعب التاجيكي بما لديه من حكمة التسامح والتقبل يحمل في حد ذاته هذه الروح التسامحية التي تشبع بها موروثنا العلمي والأدبي، بما فيه تراث الإمام الأعظم الذي يمكنه اليوم أن يخدم كنموذج جلي لحوار الثقافات والحضارات.وعندما طرحنا فكرة إعلان عام الإمام الأعظم كنا قصدنا بذلك الإجلال بهذا الرجل العظيم والمزيد من التعرف في نفس الوقت بسيرة حياة صاحب مذهبنا وتراثه الفقهي الخالد.ومن جهة أخرى أردنا بذلك إبراز دور ومكانة التراث الإيماني والفقهي في توحيد الشعوب من خلال حوار الحضارات، إذ إن الزمن الذي تشعر فيه الإنسانية بأمس الحاجة إلى التفاهم والتعاون فيما بين أبنائها، يكون من الأهمية بمكانها الرجوع إلى سيرة حياة وتراث الأعلام.وفي الوقت نفسه أود أن أشير بصورة خاصة إلى أن إعلان عام الإمام الأعظم لا يعني تفضيل مذهب على مذهب آخر إطلاقاَ، بل إننا نبتغي من وراء ذلك لفت أنظار المجتمع إلى التعمق في دراسة آرائه القيمة، لا سيما ما فيها من قيم التسامح والانتفاع بها في تعزيز التفاهم والتضامن الإسلامي خاصة والعالمي عامة في هذا الزمن المضطرب من خلال الإجلال بما قدمه هذا الفقيه العظيم من عمل جليل في خدمة دينه.إذ إننا ندري جيداً من تجربة الماضي أن الأمم والشعوب التي عملت من أجل احترام وصيانة تراثها الثقافي والديني وتسخيره لخدمة أهدافها ومقاصدها استطاعت أن تحقق إنجازات كبيرة على طريق التطور المنشود.وفي واقع الحال، إن دين الإسلام الحنيف الذي جوهره التوحيد وكلام الله القرآن الكريم ليس سوى منهج حياة لكل فرد مسلم.وكان آباؤنا منذ أكثر من 13 قرناً مضى قد تقبلوا هذا الدين قلباً وقالباً والدليل الواضح على ذلك الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضى الله عنه إلى جانب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.وبعبارة أخرى فقد جاء الإسلام إلى هنا ليمتزج طوال هذه الفترة الطويلة بثقافتنا العريقة حتى يصبح جزءاً لا يتجزأ منها.واليوم وبفضل الاستقلال اكتسبت القيم الأخلاقية الإيمانية والدينة مكانة خاصة في بلدنا.ونحن نعتبر هذه القيم مظهراً من أهم مظاهر الوحي الإلهي ومكسباً من أعز مكاسب العلوم الربانية ومنهلاً من أصفى مناهل الأخلاق الحميدة ووسيلة من أقوى وسائل تربية الأجيال ونوراً من أسطع أنوار الهدي ومعرفة الذات.فمن هنا إلى جانب حماية المصالح الوطنية نشعر في الوقت ذاته بمسؤولية الحفاظ على النقاء والأصالة الدينية و حفظها من أي من شوائب التطرف الديني.وهذا المنهج الذي تعلمناه من تجارب سلفنا الصالح، منهم صاحب مذهبنا الإمام الأعظم.وإن أبا حنيفة — رحمه الله – في تاريخ الثقافة الإسلامية معروف كفقيه وصاحب رأي ليصبح قطباً من أهم أقطاب الفقه ومن جملة الأئمة الأربعة من أصحاب السنة والجماعة إلى جانب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام ابن حنبل رحمهم الله.وينبغي الذكر أن آراء أبي حنيفة أصبحت مدرسة من أعظم المدارس الفقهية في تاريخ الإسلام، إذ إن مدرسة الإمام الأعظم الفقهية ترتكز على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآراء الصحابة والإجماع والقياس والاستحسان وكذلك الأعراف لتشمل جميع مسائل المسلمين الحياتية والتعبدية.وإن أعظم خدمة قدمها الإمام الأعظم هي قبل كل شئ العمل من أجل تلقي تعاليم الوحي الرباني كأهم عامل لتوحيد الناس بعيداً عن التفرقة والمجابهة.وإنه استطاع أن يؤسس مذهباً لأهل السنة والجماعة يشتمل على سبل ووسائل لمعالجة الخلافات والنزاعات في إطار القيم والتعاليم الشرعية وتفعيل أساليب لحوار الحضارات بالإضافة إلى تجسيد التجارب التاريخية والمواقف المذهبية والأفكار الفلسفية والحكم الشعبية لعديد من الشعوب والقوميات المسلمة.وإن هذا المزيج من الأفكار والعقائد الدينية والثقافية والفلسفية هو الذي جعل المذهب الحنفي واحداً من أهم المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة ليخرج من الكوفة حتى يصل إلى أقصى أفريقيا وآسيا المركزية والصين وروسيا وأوروبا.وإن المذهب الحنفي كان الإقبال عليه بفضل ما فيه من الملاءمة لاحتياجات الناس اليومية الأمر الذي جعله مذهباً أقر به كمذهب رسمي في عديد من البلدان الإسلامية. وبفضل ما فيه القيم استطاع الكثير من القوميات والشعوب بما فيه التاجيك أن يحتفظوا بهويتهم الوطنية طوال 1300 سنة مضت.وهنا جدير بالذكر أن جوهر آراء أبي حنيفة وأفكاره متناغمة مع القيم الإنسانية العامة المتمثلة في حب البشر والمساواة والدفاع عن كرامة الإنسان والإسهام في توفير الحياة الكريمة الهانئة والنهضة المادية والمعنوية للمسلمين والمجتمع البشري.وكان أبو حنيفة من خلال عمله الاجتماعي يلتزم هذا الموقف ويحمي في كل موقع عن أحكام الشريعة الإسلامية.والإمام الأعظم، كما يبدو من سيرة حياته، بعد العودة من البصرة إلى الكوفة قضى جل وقته لإكمال الفقه ليضع نظاماً فقهياً متكاملاً لتيسير معالجة مسائل حياة المسلمين قد أصبح في حياته أكثر إقبالاً وشعبية وتأثيراً بالمقارنة إلى المذاهب الأخرى لأهل السنة والجماعة.وكان الشغل الشاغل للإمام أبي حنيفة في حقبة سياسية عاش فيها هو تطبيق الشريعة الإسلامية السمحة وسيادتها في حياة المجتمع.كما يجب الأخذ بالاعتبار أن المرحلة السياسية التي عاش فيها الإمام الأعظم كانت من أكثر مراحل التاريخ الإسلامي تعقيداً واضطراباَ وأشدها تناقضاً وصراعاً.وفي تلك المرحلة بالذات كانت قد اشتدت النزعة القومية المفرطة في دوائر الحكم مما أدى إلى تفشي الظلم والأذى للمسلمين من سائر الأقاليم ليثير بعض شبهات حول مصداقية المساواة والعدل والأخوة بين أهل الإسلام .وفي مثل هذا الظرف التاريخي الدقيق للغاية حيث تفرقت الأمة إلى مذاهب ومسالك وشيع متناقضة تمكن الإمام أبو حنيفة من إيجاد سبيل لتنمية الوعي الإسلامي السليم الذي أطلق عليه فيما بعد بالمذهب الحنفي الذي لف حوله معظم المسلمين ناشراً وحامياً لمبادئ المساواة والتسامح والعدالة الاجتماعية واستئصال التمييز العنصري.وبعبارة أخرى، فإن المذهب الحنفي استطاع الخروج بالعالم الإسلامي من ورطة الخلافات الشديدة داعياً أتباع المذاهب المتطرفة إلى الحق وسواء السبيل بحسن التدبير والتسامح والحجج العقلية والمنطقية القوية.كما سلف، كان الإمام أبو حنيفة يرتبط نشاطه السياسي في معظم الأوقات بتطبيق الشريعة في حياة المجتمع. فمثلاً كان يقترح أن تتم بيعة الخليفة من قريش في مجلس حر وشفاف وأن يكون من شروط البيعة العلم والعدل.لا يحق لرجل ظالم ومتعسف أن يشغل منصباً ولا طاعة لخليفة ظالم.وفيما يتعلق بأهمية القضاء وعدالته كان الإمام الأعظم يعتقد أن هذا المقام يستحقه من لديه القدرة على تطبيق العدالة الشرعية أو ما يسمى بالقانون في لغتنا اليوم على الخليفة والحكام والقادة العسكريين وما أشبه ذلك.وإن أفكار هذا المجتهد العظيم تجسد أن الناس سواسية أمام الشريعة الإسلامية وتؤكد استقلالية القضاة والمحاكم.وحين اقترح الخليفة العباسي المنصور لأبي حنيفة منصب القضاء قال الإمام إن المقربين منك بحاجة إلى من يحترمونه من أجلك، فإني لا أقدر على ذلك ولن أحكم في القضاء خلاف الشريعة والعدل.ويبدو من هذا الكلام الجرئ أن أبا حنيفة كان يعطي الأفضلية لأحكام الشريعة والعدل الإلهي، بينما كان يضع أوامر الخليفة في المقام الثاني.وكان يعتبر التمسك بأحكام الشريعة واجباً على جميع المسلمين، بما فيهم الخليفة وبعمله هذا كان يحث المؤمنين على المساواة.وكان الإمام أبوحنيفة بهذه الوسيلة في أحلك الأوضاع السياسية للخلافة وإلى جانب الأركان المهمة للشريعة الإسلامية مثل كلام الله والأحاديث النبوية الشريفة وضع أصول القياس والاستحسان والإجماع في جوهر فقهه وأرسى بذلك أسس التسامح والاعتدال بين المسلمين.وقد أبدى الإمام الأعظم آراءه الواضحة الجلية إزاء مظاهر مختلفة سياسية واجتماعية في زمانه، معتبراً إصلاح المجتمع عاملاً مهماً للتقدم الاجتماعي.وفي هذا السياق بلغت آراؤه مبلغاً ليخدم للثقافة السياسية الجديدة في المراحل الأولى من نهضة الإسلام، وأن أفكار هذا الرجل العظيم لا زالت اليوم تنفع الناس حيث أنها تحث الناس على التقوى والطهر ورفاهية المُلك وترشدهم إلى حب الوطن واحترام القيم الوطنية والحرية والاستقلال.ومن أجل تأمين استقلالية المواقف السياسية والاجتماعية والدينية لأهل الإسلام أخذ الإمام أبو حنيفة أيضاً ينشر نظرية الاقتصاد الحر والاكتفاء الذاتي، لأن الحرية السياسية والاجتماعية لها ارتباط بالوضع الاقتصادي لكل فرد.وكان الإمام الأعظم وعلى أساس القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يعتبر المال من الأركان الأصلية لإصلاح الحياة ودافعاً لتقدم الشعب والبلد وأخيراً عاملاً لسعادة الإنسان والمجتمع وحتى سلاحاً بيد المؤمن.وقال الحكماء أن إتلاف المال وإسرافه يؤدي بصاحبه إلى الفقر وعسى أن يكون الفقر كفراً.وكان الفقر والفاقة إلى جانب الأمية والجهل في كل زمان ومكان مصدراً من مصادر العنف والتطرف ومصائب الإنسان.وإن كسب الحلال من أهم شروط تعاليم الإسلام حيث أن المسلم يجب أن يوفر معيشته من الحلال الطيب. وكان الإمام الأعظم يجيز عمل الخير والصدقات مما كسبه الإنسان حلالاً طيباً فقط.وتكمن في مفاهيم "المال الحلال" و"كسب الحلال" حكمة الكدح وتعلم الحرفة والنهج السليم الذي يكون الهدف منه حماية المجمتع من الإسراف والفساد والرشاوى وغيرها من الأفعال الرذيلة.ومع أن الإمام الأعظم قد بلغ أعلى درجات العلم إلا إنه كان اقتداء بالرسول الأكرم يعيش على حساب التجارة.وكان في حياته يسترشد بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفضل المعاش التجارة وأن أحسن الغنى كسب الحلال وهو يواكب العلم والتجارة بصورة جادة.وكان الإمام الأعظم قدوة للآخرين في قضاء حاجة المحتاجين ورعاية الأسر الفقيرة ودعم طلبة العلم.يقول أحد تلامذته أبو يوسف أن أستاذه كفل معاشه ومعاش أسرته حتى عشرين عاماً وكانت صدقاته كلها تأتي من كسب التجارة حلالاً طيباً كما أمر به الله في كتابه العزيز.وبهذا الدليل كان الإمام الأعظم ضامناً لأموال كثير من الناس وكانت داره قد عُرفت كـ "مجلس البركة".وهذه الأمثلة من آراء الإمام الأعظم ومنهج حياته يمكن أن يكون في يومنا هذا إلى حد ما قدوة يقتدى بها.وفي الوقت نفسه يجب القول بأن آراء أبي حنيفة حول حريات الفرد والقضايا الاجتماعية المختلفة والنظم التعبدية المتباينة يمكن اليوم تخدم كأرضية صالحة لأجل إقامة تعايش بين مختلف الشعوب وبناء الروابط بين الثقافات والحضارات.وكان الإمام الأعظم يؤكد أن القيم الإسلامية ليست ملك قوم أو أمة بوحدها، بل أن لها دائرة أوسع لتكون ملكاً للجميع.ونعرف من المصادر التاريخية أن المراحل الأولى لنشأة الإسلام تم في إطار الخلافة الإسلامية تكوين مجتمع مزيج من قوميات وشعوب ذات العادات والتقاليد المختلفة وُجدت فيه اختلافات مذهبية إلى جانب وحدة العقيدة.وفي مثل هذه الظروف كان الإمام الأعظم لأجل إزالة النزاعات بين الفرق والاختلافات النظرية وتعزيز الأحكام الشرعية وتيسير النظام الفقهي وتسهيل معالجة مشاكل المسلمين، لا سيما توحيد المجتمع الإسلامي قد وضع أسساً لمذهب فقهي مقبول في عالم الإسلام من حيث النظام التعبدي وتطبيق الأحكام الشرعية على حد سواء.الحضور الكرام،إن تاجيكستان ذات السيادة اليوم تمضي قدماً نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة على أساس تحقيق البرامج المحددة التي تعكس القيم الوطنية والمنجزات العلمية والتقنية الحديثة.وإننا نسعى إلى بناء دولة مدنية عصرية ونريد أن يكون أبناء شعبنا أن يحرزوا التقدم في كافة مجالات العلم والفن والتكنولوجيا المتطور وأن يحيطوا في الوقت نفسه بتقاليدهم وقيمهم الوطنية والدينية السامية.وهذا بدوره يكون للشعب التاجيكي سبيلاً من أفضل السبل لمقاومة كل أشكال الإفراط والتطرف وهو جزء من أهم أجزاء آراء الإمام الأعظم. ومن هذا المنطلق لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي تجاه مصير المسلمين في العالم وهمومهم ومشاكلهم في القرن الحادي والعشرين.ومما يثير القلق أن بعض البلدان الإسلامية لم تدرك بقدر كافٍ واقع الحال في عالمنا اليوم حتى تخرج من قيد الخرافات والتخلف.وبعض من هذه البلدان وعلى أساس المناقشات الكلامية والمسائل الظاهرية يقف حيال الآخر معارضاً ليفتح الطريق إلى نشأة كل أشكال الحركات المتطرفة في العالم الإسلامي والحروب ومقاتلة المسلمين وبالتالي النيل من الإسلام وقيمه.والبعض الآخر لا يريد أن يدرك واقع العالم المعاصر والتقدم العلمي والفني والتكنولوجيا الحديث ليلحق بركب الحضارة ويرتقي بمستوى معيشته.وباعتقادنا قد آن الأوان للدول الإسلامية أن تخرج من القيود بالاستناد إلى مبادئ المحبة والتسامح ومن خلال تعزيز العلاقات الطيبة والروح الجماعية أن تسد الطريق إلى التطرف وتعمل من أجل إتاحة الفرصة للمواطنين للوصول إلى منجزات العلم والفن الحديث.كما يبدو أن لحسم هذه المطالب ينبغي قبل كل شئ توسيع وتنمية العلاقات الاقصادية والتجارية والثقافية المتعددة الجوانب فيما بين الدول.فعلى هذا الأساس نجد أن آراء الإمام الأعظم وسيلة مهمة للغاية للتقريب بين الغرب المتقدم تكنولوجياً وبين الشرق الغني بثروات معنوية وطبيعية.وحول هذه القضايا المحورية المعاصرة كنت قد أبديت بعض أفكاري عام 2005 في كلمتي في القمة الاستثنائية لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقدة بمكة المكرمة. وأود أن أستذكر أهم ما جاء فيها.من الواضح أن الهدف الستراتيجي لكل دولة هو توفير الحياة الكريمة لمواطنيها ومن الطبيعي أن طريق الوصول إلى ذلك يعترضه كثير من المشاكل والعقبات.ولكننا نحن المسلمين نمتلك لتحقيق هذا الهدف إمكانيات وظروفاً مؤاتية، لأن بلداننا فيها ثروات طبيعية هائلة مثل الماء والأراضي الخصبة والطاقة والمعادن بالإضافة إلى طاقات بشرية وذهنية عظيمة والقيم الثقافية والتجارب التاريخية للتعاون. إذن، فإننا قادرون على تحقيق هدفنا الكبير.وبالطبع أن تحقيق هذا الهدف لا يتم إلا من خلال إقامة الوحدة الفعلية والتعاون المتبادل المنفعة تمسكاً بحكم الآية القرآنية الكريمة "إنما المؤمنون إخوة".ومن أجل ذلك ينبغي أن تعطى الأولوية في سياسات الدول الإسلامية لتقدم العالم الإسلامي، لا سيما التنمية الاقنصادية والفنية والتقنية والعلمية.وفي هذا الطريق يكون من الأهمية بمكانها أن تقوم الدول الإسلامية الثرية بتوسيع نشاطها الاستثماري في الدول الإسلامية النامية.إذا ما كنا تعبيراً عن الإرادة السياسية ومشاعر الأخوة والمساواة استثمرنا إمكانيات بعضنا البعض، فسوف نستطيع في مدة زمنية قصيرة نسبيا أن نضمن بصورة ملحوظة النمو الاقتصادي المطرد ونرفع من المستوى المعيشي لشعوبنا، حتى تتحقق لأخينا المسلم الحياة الهانئة الكريمة وأن يزداد الإسلام اعتباراً واقتداراً في العالم.الإخوة الكرام،لقد تم عمل الكثير إلى الآن من قبل العلماء والباحثين في الإسلام الحنيف ونشر تراثه المتناقل.ولكن لم يتم لحد الآن كما ينبغي التحليل والتقييم وحل المعضلات والمسائل النظرية الدينية والجدل المذهبي والفقهي الذي يحمل في أكثر الأحيان طابعاً سياسياً واجتماعياً تختفي وراءها مطالب سياسية واجتماعية مختلفة وبذور الفتن والنزاعات.لذا فعلى علماء الدين الأفاضل والفقهاء وخبراء الإسلام من خلال دراسة المسائل الدينية الملحة أن يقدموا حلولاً لإزالة العقبات التي تخل باستقرار الأمة وتقدمها إلى الأمام.وذلك الفقه الذي كان أبو حنيفة وأتباعه به حل 60 ألف وبقول آخر 83 ألف مسألة في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين ليضمن وحدة المجتمع الإسلامي يجب على العلماء والباحثين أن يحققه لمعالجة معضلات زماننا المعاصر.وهذه القضية ولو بدت بسيطة في الوهلة الأولى لكنها في واقع الأمر معقدة وحساسة للغاية لأن معالجتها تخص الحياة الهانئة المستقرة لما يزيد عن ألف مليون مسلم في العالم.وجاء في المراجع الدينية أن فقهاء المذهب الحنفي بعد الإمام الأعظم انشغلوا فقط بشرح وتوضيح ما قاله الإمام ولم يظهر فقيه آخر يضاحيه في العلم. وهذا بطبعية الحال شهادة بأبقرية ونبوغ أبي حنيفة في العلم والفقه.فعلى هذا الأساس وللمصلحة العامة يجب على الباحثين أن يقوموا بصورة جماعية بتحقيق ودراسة أفكار وتعاليم الإسلام والثقافة الإسلامية ومختلف جوانبها النظرية والعملية.وإن كل ظاهرة إفراطية في شؤون الدين يجب دراستها وتقييمها قبل كل شئ من قبل العلماء والباحثين وهذا الأمر يتطلب في المد الأول مشاركة جميع العلماء والفقهاء على المستوى الإقليمي. ثم يجب توسيع هذه الدائرة في معالجة هذه القضية المحورية بإشراك المراكز وامدارس الدينية في العالم الإسلامي.وعلى المراكز الرئيسية لدراسة الفقه الإسلامي تعزيز علاقات التعاون البينية وجذب خيرة القوى الذهنية الموجودة في العالم الإسلامي لدراسة وتحقيق مختلف مجالات الثقافة الإسلامية للحيلولة دون نشوء حركات وفرق غير مرغوب فيها في رقعة تعاليم أهل السنة والجماعة وبخاصة في فروع الاجتماعيات والسياسات.لأن حدوث فراغ في مجال من مجالات الدين ستشغله حتماً الفرق والاتجاهات المتطرفة.الحضور الكرام،إن من جليل أعمال الإمام الأعظم للأمة الإسلامية هو طيلة نشاطه أكثر من نصف قرن وعلى أساس المراجع النقلية والشرعية الإسهام في صيانة المجتمع الإسلامي من التمزق وتوحيد الشعوب الإسلامية المختلفة تحت راية الإسلام وإنقاذ الأمة من الصدام المتعب والمهلك.لذا فإن آراءه من أجل استقرار المجتمع قد سلمت من تصاريف الدهر لتلعب الدور الكبير في منهج حياة المسلمين.وإن جميع المسائل التي أبدى الإمام الأعظم رأيه فيها قد اجتازت من امتحان التاريخ لتصبح اليوم من قيم المعارف الدينية والثقافية ولها مكانتها اللائقة في تاريخ الفكر الإسلامي.فعلى هذا الأساس تكتسب آراء أبي حنيفة اليوم أهمية في تطوير الفكر الإسلامي ومنها:أولاً: — إنها تخدم بمثابة مرجع علمي هام.ثانياً: — إنها مرجع مهم لتقييم شرعي وعلمي لما يطرأ على الثقافة الإسلامية من مظاهر جديدة غير مرغوب فيها.ثالثاً: — إن منهجية الإمام الأعظم في الدراسة والتحقيق يمكن أن تكون نموذجاً ممتازاً في عمل الباحثين.رابعاً: — أن تكون عاملاً مهماً في حوار الحضارات وتحقيق الوفاق والوحدة.خامساً: — إن ميزة التسامح الموجودة فيها يمكن أن يستفاد منها في إقامة علاقات طيبة بين الإسلام والأديان الأخرى.إن آراء الإمام أبي حنيفة ترشد الإنسانية اليوم إلى الصلح والتسامح والمودة والمحبة والتفاهم والاحترام المتبادل للقيم الإنسانية والامتناع من العنف.وإننا اليوم، إذ نرجع إلى تراث الإمام الأعظم بالتحقيق والدراسة، نستخلص منها أن تراث الآباء لم يفقد أهميته إطلاقاً، بل إنه يتجاوب مع ما يعيشه الناس اليوم من هموم ومسائل حياتية.لأن في مذهب الإمام الأعظم ومدرسته الفقهية والفلسفية والعرفانية رسالة لبناء الحياة الهانئة ونهضة المجتمع، فقد قال أبو يوسف في أستاذه إن الله تبارك وتعالى قد زان أبا حنيفة بالفقه والعلم والعطاء والخُلُق القرآني.وفوق ذلك فإن عظمة العقل والعلم والإرادة الصلبة والإيمان القوي والصدق الفطري الذي تخلق به الإمام الأعظم يبقى لنا اليوم بمثابة تمثال بارز يجسد الملامح المعنوية والمذهبية للشعب التاجيكي الذي استطاع أن يستوعب في أصعب مراحل التاريخ الإسلامي عظمة وماهية الإسلام حامياً في الوقت نفسه الثقافة الوطنية ولغة الأم بإرادة وجسارة لم يسبق لها مثيل.وفي الظروف الراهنة حيث نجد بعض مناطق العالم الإسلامي تعتريه موجة من الصدامات والنزاعات والتعصب والتطرف، فإننا نشعر بحاجة ماسة إلى معرفة آراء أبي حنيفة والتمسك بها من قبل أتباع مذهبه، بخاصة الشباب منهم.ويمكن أن نسمي الإمام الأعظم بحق رجلاً قام بوضع أسس لرفع النزاعات بين الأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء، لأن المذهب الفقهي الذي بناه يساعد على إزالة نزاع الحضارات في الإطار الشرعي وعلى أساس الأعراف والسنن الحسنة الموجودة في الثقافة الإنسانية.ومع أمل بمستقبل تطور الأمة الإسلامية ورفاهية كل البشرية وتعزيز العلاقات الأخوية الطيبة بين شعوب العالم اختتم كلمتي هذه راجياً لهذا الحفل الكريم الصحة والعافية والسعادة والتوفيق.وفي النهاية نرفع أيدينا مبتهلين إلى الله عز وجل ومصلين على سيدنا محمد المصطفى وجميع الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، خصوصا على الإمام الأعظم الكوفي وسائر العلماء والعارفين ومن قضوا نحبهم في هذه الديار ونسأل العلي القدير أن يمن على البشرية جمعاء بالأمن والاستقرار وأن يوفق شعب بلادنا النبيل لمزيد من النهضة والرقي والازدهار، كما نساله تعالى أن يحفظنا وإياكم في ظل رعايته وعنايته ويسدد خطانا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.